يعدّ كتاب "الأمير" لمكيافلي، في الوقت نفسه، موجزا في التربية السياسية ومقالة تحلّل الشروط التي بمقتضاها يمكن لدولة ناشئة أن تستمرّ في وجودها وتحافظ على بقائها.
ويعتبر دور الأمير دورا جوهريا بالنسبة إلى بقاء الدولة ولذلك خصّص مكيافلي جزءا كبيرا من كتابه لتقديم نصائح إلى الأمراء.
ويمثل الفصل الثامن عشر مرجعا في هذا السياق حيث يقارن مكيافلي بطريقة رمزية بين الوسائل المختلفة التي تكون تحت تصرّف الأمير حتى يتفوّق على أعدائه: إذا كان العنف المعلن ضروريا، فغنه ليس كافيا لذلك ينصح مكيافلي باللجوء، آخر الأمر، إلى الحيلة.
ولبيان ذلك نجده يحاجج وفق ثلاث لحظات:
اللحظة الأولى: يقارن مكيافلي بين القوة والقانون لأنهما طريقتان في القتال يلجأ إليهما الأمير أي رجل الدولة دفاعا عن دولته ضدّ الدول الأخرى وخاصة ضد أعضاء الدولة ورعاياها الذين بإمكانهم أن يطيحوا بنظامها القائم والإنقلاب عليها.
تلك، على الخصوص، حالة كبرى العائلات النبيلة في إيطاليا في القرن السادس عشر. إنّ القانون، أعني الموانع العمومية التي يؤدي اختراقها إلى الترجيم، يمثل طريقة في القتال. بعبارة أخرى، يعدّ القانون وسيلة تكون تحت تصرّف الأمير لأجل توطيد سلطته وترسيخها تأمينا لإستمرارية الدولة واستقرارها.
وإذا كان القانون الذي يتمّ تشريعه من طرف الأمير يحدّد القواعد التي يجب على الرعايا الإمتثال إليها فغنّ من يخترق القوانين يدان ويجرّم طبقا لسلّم العقوبات التي تنصّ عليها. وتبعا لذلك لمّا كان الحكم مطابقا للقانون فإن العقاب يكون عادلا.
فضلا عن ذلك، ما لأن يسنّ القانون، فإن الأمير لن يتدخّل في تطبيقه ذلك أن القضاة وحدهم يطبّقون القانون وينزلون به العقاب على من تسوّل له نفسه خرقه.
على هذا الأساس، يكون قيام القانون الشرط الذي يجعل من سلطة الأمير محترمة، ويكون بالتالي قادرا على إخضاع رعاياه دون أن يلجا بنفسه إلى استعمال القوة. تكون العدالة هكذا في خدمة سلطة الأمير.
أضف إلى ذلك، إذا كان القانون يمثّل "خاصة الإنسان" فإن مكيافلي يبدوبذلك متجاوزا للتقليد الفلسفي الذي إعتبر إمتلاك الإنسانيّة للعقل يسمح لها، خلافا للحيوانات، بأن تعيش في مجموعة منظمّة بالقانون وليس بالقوّة. وإذا سلّمنا أن القانون هوفعلا خاصة الإنسان، فإنّه لا يعني – لدى مكيافلي – حكم العقل وسيادته وإنما هووسيلة للسيطرة الخاصة على البشر، أمّا القوة فهي وسيلة للهيمنة والسيطرة الخاصة على الحيوانات أي أن العقل لا يرجّح بين الحيوانات وإنّما القوّة هي التي تغلّب.
هاهنا أيضا يقطع مكيافلي مع التقليد الفلسفي الأخلاقي الذي يرفع من شأن الحياة العقلية، الخاصّة بالإنسان، ضدّ الحياة الحيوانية المحكومة بالقوّة. لكنّ مكيافلي يدعوالأمير إلى إستخدام القوة لأنّه بمقتضى هذا الشرط يحفظ دولته ويصونها من كيد الأعداء.
اللحظة الثانية: يدعّم مكيافلي موقفه بالإرتكاز على "الكتّاب القدامى" أي كل من اليونانيين والرومانيين الذين اعتبروا، في عصر النهضة، بمثابة معلّمي المفكّرين الإنسانويين. ولا يحيل مكيافلي هاهنا إلى كاتب بعينه وإنّما هو ينكر فقط أسطورة آخيل، بطل الألياذة.
والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا هو التالي: لماذا اكتفى مكيافلي بالعودة إلى الأسطورة؟ من البديهي أنه كان يروم القطع مع تقليد كلاسيكي ولذلك نعتبر أن عودته إلى الأسطورة تنطوي على جانب من السخرية أوالتهكّم.
بيد أنّ مكيافلي يظهر بذلك فنّ التأويل بمعنى أنّ كتابات القدامى هي، في الغالب، كتابات رمزية وهي، تبعا لذلك، تمتلك معنى آخر أعمق من معناها الظاهر. من الضروري أن نعرف قراءة هذا المعنى الذي يكون مكتوبا بـ "ألفاظ متحجّبة".
وهذه النصيحة تنسحب دون شك كذلك على كتاباته الخاصّة. ويذكر مكيافلي أنّ الإقتضاء الأول للأمير هو جعل دولته تدوم وتستمرّ ولأجل ذلك كانت القوة مشروعة.
اللحظة الثالثة: انشغل فيها رمزيا بمشكل القوة التي تعتبر مضاعفة حيث يمكن أن تكون ثعلبا أو أسدا. وهذا الزوج من الحيوانات يعتبر زوجا تقليديا دارجا في آداب القرون الوسطي حيث يرمز الأسد إلى القدرة الفيزيائية أوالعسكرية في حين يرمز بالعلب إلى الحيلة والدهاء بهما يتمّ تعديل الضعف الفيزيائي. على الأمير إذن أن يتصف بهذه الصفات وأن يعرف كيفية استخدامها.
إن الحيلة لا تتعارض مع القوّة وإنّما هي نوع خاص من القوة بالنظر إلى تميّزها عن العنف المعلن والمباشر الذي يرمز له بالأسد. تعتبر الحيلة عنفا غير مباشر ومقنّع ويجب على الأمير أن يمتلك الصفتين معا لأن الواحدة تتمّم الأخرى ولأن نقائص الواحدة توازن بمواصفات الأخرى.
فالحيلة مثلا لا تستطيع بمفردها أن تؤمّن السيطرة، لذلك يكون الثعلب عاجزا أمام الذئب الذي يرمز إلى أعداء الأمير الذي يقدرون على استخدام القوّة العسكرية ضدّه. وبواسطة القدرة العسكرية، سيستبعد الأمير تهديدات الدول الأخرى القوية عسكريا ولذلك يجب عليه أن يكون، في الوقت نفسه، أسدا وثعلبا.
خلاصه القول، يعارض مكيافلي التقليد الفلسفي والديني الذي ساد في عصره وهو يأخذ بعين الإعتبار المقتضيات الخاصة بالممارسة السياسية لا سيما لمّا يتعلّق الأمر ببناء الدولة وتأمين بقائها.
وفي الواقع، إن مكيافلي يفكّر بصفة خاصّة في وضعية إيطاليا في بداية القرن السادس عشر المنقسمة إلى إمارات متناحرة والتي كانت محلّ أطماع قوى خارجية "إسبانيا وفرنسا". إن الدرس الذي نستخلصه من تحليل مكيافلي هوأن الممارسة السياسية لرجل الدولة يجب أن تخضع لأمر واحد يتمثل في تأمين بقاء الدولة ولذلك فهويقطع مع التقليد القديم معبّرا القانون أداة للسيطرة والتحكّم.
وإن الأحكام العادلة والمتطابقة مع القانون، من قبل محاكم مستقلّة عن السلطة السياسية والتي تحترم إذن فصل السلطات، لا تشكّل حدّا لسلطة الملك وإنّما هي على العكس وسيلة ناجعة لبسط نفوذه.
وتبعا لذلك يبدوأن مكيافلي قد إستبق تحليل ماركس للمؤسسات الديمقراطية التي لا تتعارض مع سيطرة الطبقة المالكة للسلطة الحقيقية، وهي السلطة البرجوازية لدى ماركس، وإنّما تستعمل، على العكس، مصالحها لإخضاع بقية أفراد المجتمع تحت قناع العدالة